غادي الغازي |حركة هتحبروت–ترابط
رفيقات ورفاق النضال الأعزاء،
أقف هنا أمامكم مع رفاقي ورفيقاتي من مواطني إسرائيل، الدولة التي تحتل، والتي يعيش تحت وطأتها سكان الضفة الغربية، قطاع غزة وهَضبة الجولان منذ ما يزيد عن أربعين عامًا. أنا مواطن الدولة التي تحتل، ومَن يتمتع بحقوق امتيازية وبحريات المحتلين، مع أنني شاركت على امتداد عشرات السنين في نشاطات احتجاج ضد الاحتلال. فهذه النشاطات لم تلغ الاحتلال. وبالتالي، فصحيح أن الحوار السياسي بيننا هو بين مناهضي النظام القائم، ولكنه ليس حوارا بين متساوين، فنحن لا ندفع الثمن نفسه على التزامنا السياسي. وأنا أشكركم على انه وسط هذه الشروط سمحتم بالإمكانية كي نتحدث معًا عن الصراع، وعن المستقبل الذي سيُبنى في هذا المكان لشعبينا حين نعيش هنا كبشر أحرار، وحين نتخلص من عبء الاحتلال، الاستعمار والصهيونية.
لا نتحدث عن الاحتلال فقط. لقد طُلب مني التحدث باسم حركتي، حركة هتحبروت-ترابط عن الاستعمار داخل الخط الأخضر. أنا نفسي، كيهودي إسرائيلي، نتاج هذه العمليات الاستعمارية. مهما كانت وجهات نظري، فأنا جزء من مجموعة قومية إسرائيلية، نشأت في هذا المكان كجزء من عمليات الاستعمار. والأهم: أنا أتمتع اليوم بحقوق امتيازية هامة بحكم هذا الانتماء، حتى لو كنت معارضًا لها. فلا أحد يسألني. مديرية أراضي إسرائيل لا تسألني عن تمييزي ايجابيًا كيهودي مقابل اخوتي وأخواتي الفلسطينيين مواطني إسرائيل. وعلى الحواجز، حين يفحصون المظهر واللهجة لمعرفة ما إذا ما كنت عربيًا، لا يسألونني إذا كنت أريد التمتع بالحقوق الامتيازية المعطاة لمواطن يهودي إسرائيلي. هذه حقائق اجتماعية موضوعية – حقائق مرسّخة في منظومة العلاقات، المؤسسات، وفي الحقيقة الحاسمة المتمثلة بأن عملية الاستيطان والسلب في البلاد لا تزال في ذروتها.
لديّ تاريخ، ومن داخله فقط يمكنني ان اتكلم. فقد شكّل أهلي مادة خام للمشروع الاستعماري الصهيوني. أمي هربت إلى هنا من الملاحقة في أوروبا، من العنصرية الأوروبية، الغربية ومن الإبادة. أبي جاء إلى هنا من مصر، حين أدى تفاقم الصراع في البلاد إلى هدم أرضية وجود مجتمعات يهودية في دول المشرق العربي. والشعب الفلسطيني يدفع ثمن نجاح الصهيونية في استخدام معاناة اليهود والعنصرية ضدهم، لغرض تطوير مشروع السلب، الاستيطان والتمييز العنصري.
لقد استخدمت الصهيونية اللاجئين اليهود (وفي حالات معينة اهتمت أيضًا بطردهم)لغرض جعل الشعب الفلسطيني شعبًا من اللاجئين. أما اللاجئون والمهاجرون اليهود، سواء اعتبروا أنفسهمصهاينةأم لا، فقد حولتهم إلى مستوطنين، إلى جزء من مشروع الاستيطان والسلب – إلى جدار بشري يتواجد في حركة دائمة. فقامت بفصل اليهود الشرقيين منهم عن ماضيهم، عن ثقافتهم، عن محيطهم العربي، وأهانتهم وحمّلتهم سلاحًا في مواجهة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. هكذا وجد أبي نفسه، شاب يهودي مصري في الـ18 من عمره، مجندا للجيش الإسرائيلي في حرب 1956—وقد تم وضعه بمواجهة أبناء جيله الذين عاشوا في الأحياء,التي ترعرع فيها في الإسكندرية. لقد تعلم أهلي الدرس والعبرة وقاما بتعليمي، كمهاجرين ولاجئين تحررا من الصهيونية، ان أحترم حقوق اللاجئين.
ومن هنا التحدي المزدوج أمامنا في مواجهة الصهيونية كحركة استعمار لمستوطنين، حين ننشط داخل مجتمع مستوطنين استعماري: أولا، وقف عملية السلب والتدمير التي تفرضها على الشعب الأصلاني، وثانيا، ان نقترح على الناس الذين تقوم باستخدامهم واستغلالهم كمادة خام لسيرورة السلب، الاستيطان وإقامة الجدران — مخرجًا من منظومة جدران الأسلاك الشائكة التي تشيّدها على أجسادهم، ومن أجسادهم.
1.الصهيونية هي حركة استعمار استيطاني. وخلافًا لأنواع أخرى من الاستعمار، فإن الاستعمار الاستيطاني(settler colonialism)يقوم على اجراء تغييرعميق للمشهد الاجتماعي والاقتصادي بواسطة إقصاء سكان البلاد الأصلانيين وتوطين مستوطنين ونقل موارد المكان إليهم.
هناك أنواع أخرى من الاستعمار تسمح بمراكمة الثراء بواسطة تملّك الموارد المادية عبر عمل ومهارات ومعارف الأصلانيين. أما الاستعمار الاستيطاني، بالمقابل، فيسعى إلى التخلص من أهالي المكان، محو المشهد القائم وإقامة مجتمع جديدا مكانه — مجتمع مستوطنين. ولهذا فهو عملية عميقة من السلب، لكنه أكثر قسوة وتعقيدًا.
لا يمكن دائمًا ملاحظة وتشخيص المراحل الأولى من هذه العملية في المكاسب الهائلة التي تعرضها على النخب؛ ليس من السهل رؤية أن تملّك الأرض والمياه وإقامة المستوطنات في مناطق الريف تشكل قاعدة لتطور رأسمالي متسارع لاحقًا: رأسمالية ديناميكية ومنفلتة العقال ليس فقط لأنها تقوم على سرقة الموارد، بل لأنها أقل تقيّدًا بالروابط الاجتماعية القائمة – لأنها بنيت على تدمير المشهد القائم والنسيج الاجتماعي للمجتمع الأصلاني، وكذلك لأنها تدمج داخلها مهاجرين-مستوطنين وتعيد تنظيمهم في إطار مجتمع المستوطنين الرأسمالي.
يقوم الاستعمار الصهيوني الاستيطاني على الدمج بين خلق فرص لتحقيق الأرباح الكبيرة لقلائل وبين استغلال ضائقة الأغلبية. انه مبني أولا وقبل كل شيء على أنقاض الشعب الأصلاني الفلسطيني، ولكن سيكون من الخطأ الاستهانة بالقدرة على مقاومته. فالصهيونية تعرض على قسم صغير من المستوطنين أرباحًا هائلة، لكنها مبنية أيضًا على ضائقة غالبية المستوطنين الضعفاء الذين تقوم باستخدامهم. انهم المادة الخام البشرية في عملية السلب والاستيطان؛ انهم الرابحون الضئيلون من عملية الاستيطان، وهي تعرض عليهم امتيازات مؤقتة مقابل الشعب الأصلاني، ولكنهم أيضًا أدوات عملية السلب — ويمكن أن يكونوا ضحاياها أيضًا. إن تطوّر عملية الاستيطان تحوّلهم إلى فائض، تفكك امتيازات التي نالوها طالما تواجدوا في مقدمة العملية الاستعمارية وتبقيهم معرّضين لاستغلال رأسمالي منفلت العقال؛ بينما يحوّلهم وقف عملية الاستيطان بفعل مقاومة الشعب الأصلاني، إلى ضحاياها المفضلين كمن شكلوا الدرع البشري للأرباح الهائلة...
2. الاستعمار الاستيطاني في داخل إسرائيل ليس جزءًا من الماضي. لذلك، فإننا نُصر على أن نتحدث عن الصهيونيّة ليس كإيديولوجيا فحسب، إنما كبُنية قوّة، كجهاز مؤسساتي وسيطرة على الموارد، كقوّة تدفع الاستعمار، في الحاضر، إلى الأمام. صحيح: لقد سُرقت معظم الأراضي ومصادر المياه التي امتلكها الفلسطينيّون حتى العام 1948. من مجموع ما يفوق الـ5 مليون دونم من الأراضي (من دون منطقة النقب)، التي امتلكها الفلسطينيون حتّى العام 1948، بقي بحوزة الفلسطينيين ما لا يزيد عن 700 ألف دونم. السواد الأعظم من عمليّة سرقة الأراضي قد تمّ، والصراع على الأرض يتركّز الآن في أراضي النقب. من الجدير الانتباه إلى أن أراضي النقب، رسميًا، سُلبت منذ زمن بعيد، قبل 60 عامًا. رغم ذلك، فالنضال مستمر، والدولة لم تستطع أن تنقل السرقة من المستندات الرسميّة إلى أرض الواقع. السبب الأساسي لذلك هو أن السكّان العرب في النقب تمسكوا بأراضيهم بشجاعة رغم الظروف العسيرة، والحركة الصهيونيّة فشلت مرارًا في توطين المستوطنين ليحلّوا مكانهم. سكّان النقب العرب صمدوا حين تمسّكوا بالعيش في قرى "غير معترف بها" —دون خدمات طبيّة وتعليميّة، دون صرفٍ صحيّ وكهرباء، وهم يخضعون لهجوم مباشر من قبل الدولة من خلال هدم البيوت بمرافقة قوى مسلّحة، هذا كله ليس دربا من دروب التمييز وحسب وانما حرب استنزاف تقوم بها الدولة ضد مواطنيها.أهالي النقب وأبناؤهم يواصلون دفع الثمن اليوميّ مقابل تمسّكهم بأرضهم. لولا نضالهم اليوميّ، لما كان للسلطة حاجة بمخطط برافر.لذلك لزاما علينا جميعا الوقوف الى جانبهم في نضالهم،وانتهز الفرصة لأوجه تحية حارة لمناضلي النقب الموجودين معنا.
في مؤتمر الخليل الأوّل، أيّار 2011، تحدّثنا عن نضال أبناء قرية العراقيب، الذين كان لنا شرف الوقوف إلى جانبهم في السنوات الأخيرة. قارنّا بين نضالهم من جهة، وبين نضال أهالي جنوب جبل الخليل، ورفعنا راية النقب الشمالي كمركز للنضال القادم ضد مخططات المصادرة والسلب والاستيطان التي تنتهجها الدولة والصندوق القومي اليهودي، على أمل أن تنضم القوى السياسيّة الأخرى للاعتراف بأهميّة نضال عرب النقب، والانضمام إليه. منذ ذلك الحين تصاعد النضال. "مخطط برافر" تلقّى في الشهور الأخيرة ضربات قويّة من قبل أهالي النقب، الذين تلقوا دعمًا واسعًا لنضالهم. لكن المخطط لم يُهزم كليًا. إجراءات السلب والاستيطان في النقب مستمرة— عن طريق هدم البيوت، منع الخدمات الحيويّة، قمع حركة الاحتجاج في أعقاب المظاهرة الكبيرة في حورة، وعن طريق نقل القواعد العسكريّة إلى النقب وبناء المستوطنات الجديدة. في هذه الأيام، تحاول قوى اليمين التنظّم من جديد من أجل توسيع الاستيطان والمصادرة في النقب. ورغم ذلك: هناك ما يدعو للفرح في الهزيمة المؤقتة التي لحقت بسالبي الأراضي، هناك ما يدعو للفخر في النضال الشعبي ضد مخطط برافر؛ هناك أهمية للوقوف إلى جانب من دفعوا ثمن مقاومتهم العنيدة— وعلى رأس هؤلاء الرجال، النساء والأطفال الذي تمسّكوا بشجاعة بأراضيهم في العراقيب، عام بعد عام، الهدم تلو الهدم، وكذلك عشرات معتقلي النقب، الذين لاحقتهم الشرطة، بالتعاون مع المحاكم، ومن ضمنهم نشطاء ترابط.
الموقع المركزي الثاني للاستعمار في داخل الخط الأخضر اليوم يكمن في المدن التي تُسمى "المدن المختلطة"؛ ونحن نتحدث بالأساس عن الرملة واللد، يافا وعكا— مدن فلسطينيّة عاشت النكبة، واستوطن فيها اليهود بعد العام 1948. جزء من الفلسطينيين في هذه المدن هم أحفاد السكّان الأصليين الذين تمسّكوا بوطنهم في العام 1948، وجزء آخر هو من اللاجئين الذي طُردوا من قرى أخرى، ويعيشون تحت سلطة التمييز والتحريض العنصري. في الرملة، اللد، يافا وعكّا تتم منذ سنوات الستينيّات مساعٍ حثيثة لـ"تهويد" المدن ودفع الفلسطينيين إلى الهامش وإلى خارج المدن؛ هُدم في يافا حتى سنوات الثمانينيّات معظم المباني الفلسطينيّة، طُرد أصحابها من المدينة القديمة التي تحوّلت إلى "متحف حيّ"؛ منذ سنوات طويلة تتم محاولات لتجهيز مستقبل شبيه بيافا، بالتزامن مع تحريض عنصري، عنف، سياسة تمييز
مستوطنين ومستثمرين لـ"تطوير" المدينة. في كل هذه المدن يحاولون توطين "شرائح قويّة" اقتصاديًا؛ وفي جميع هذه المدن يناضل السكّان الفلسطينيون ضد عمليّة طرد وسلب بوسائل سياسيّة واقتصاديّة من قبل مؤسسات الدولة، السلطات المحليّة، والنُخب.
الاستعمار الاستيطاني يتأسس هنا على الدمج بين سياسات عنصريّة من جهة، وعلى قوّة السوق من جهة أخرى: نحن أمام عمليّة نعرفها جيدًا، من سلب أملاك السكّان الفقراء في المدن، خاصةً حين يسكنون في كنز ثقافي يجذب النخب. ولكن في هذه الحالة، يعيد طرفا العمليّة تدعيم الواحد للآخر: السلب الاقتصادي يتم تدعيمه عن طريق السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، فيما يجد الاستعمار الصهيونيّ حلفاء وشركاء بين المستوطنين الأقوياء، الذين يدعّمون عمليّة المصادرة والتهويد، حتى وإن لم يكونوا شركاء في الرؤية السياسيّة الصهيونيّة. نحن نشدد على الحاجز أمام النضال ضد الاستعمار بكافة أشكاله، حتى حين لا تكون هذه الأشكال ذات علاقة مرئية مع الصهيونيّة، لأن الأمر لا يتعلق بالأيديولوجيا فقط، ولا السياسات فقط، إنما بعمليّة اجتماعيّة اقتصاديّة عميقة، ينخرط فيها أيضًا من لا يتفقون سياسيًا مع الرؤية السياسية. لهذا السباب بالضبط، فإن الصراع ضد الاستعمار يجب أن يكون أيضًا صراعًا اجتماعيًا: نضال ضد الفجوات التي مصدرها العملية الاستعماريّة— ونضال ضد الضائقات التي تغذّي هذا الاستعمار.
3. لماذا نعتقد بأنه يجب النظر للاستعمار الاستيطاني، إلى جانب الاستعمار برعاية عسكرية لحكم الاحتلال من الطرف الآخر للخط الأخضر؟ إننا لا نقوم بذلك كي نقلل من أهمية الاستعمار القائم تحت الاحتلال.
على العكس: إننا نناهض المنهجية الهادفة لطمس ما يميز الاحتلال. تعمل السلطةسرائيليين، أبناء وبنات الشعب المحتل، تجاهل واقع الحياة القاسي في المناطق المحتلة، وبالذات منذ مؤسسة الحصار وإقامة الجدار الفاصل. الفلسطينيون والفلسطينيات في داخل إسرائيل يجب ألا يديروا ظهورهم للشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة وفي مخيمات اللاجئين؛ إنه لمن الخطر الاستهتار بمدى القمع في المناطق المحتلة الواقعة تحت الحكم العسكري والانشغال فقط في واقع الحياة المنفصلة التي فرضتها إسرائيل عليهم.
من المهم برأينا النظر إلى العلاقة بين الاستعمار الاستيطاني في المناطق الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال العسكري وبين المناطق الواقعة في حدود الخط الأخضر، لأن الحديث يدور عن نفس العملية، بناء على المنطق الاستعماري ذاته الذي تقوده القوى السياسية ذاتها وإن اختلفت الظروف. هذا هو السبب الذي يجب علينا التفكير كيف نواجهه معا، في الحلبات المختلفة التي ننشط فيها.
أولا، من طرفي الخط الأخضر، نحن أمام نفس المؤسسات السياسية-الاقتصادية التي تدفع عملية الاستيطان. تحالف لثلاث قوى، يدفع عملية الاستيطان في داخل إسرائيل وفي المناطق المحتلة: الدولة، مؤسسات الحركة الصهيونية، وحركات الاستيطان الصهيونية:
· الدولة (وبضمن ذلك الجيش، الذي يمتلك وحدة استيطانية خاصة به) تستثمر الموارد، تنظم العملية برمتها وتضيف لذلك قوة العنــــف والإكراه؛
· مؤسسات الحركة الصهيونية — الهستدروت الصهيونية، الوكالة اليهودية وصندوق أراضي إسرائيل — تموّل أجزاء واسعة من مشروع الاستيطان وتتيح إمكانية تجاوز المعيقات المفروضة أحيانا على نشاط الدولة المعنية بالحفاظ على "طابعها الديمقراطي"؛
· حركات الاستيطان الصهيونية توفر قوى بشرية حيوية لعملية الاستيطان، التي تستكمل الجماهير التي توطّنها الدولة بقوتها (جنود، قادمون جدد، سكان الضائقة): في الماضي الكيبوتسات والموشافيم خصوصُا — وفي الحاضر، مبشرو ومنظمات الطبقة الوسطى والطبقات العليا لدفع مصالحهم ("مستوطنات جودة الحياة").
إن تقاسم العمل بين هذه المؤسسات يتغير مع مرور الوقت، ولكن عملية الاستيطان على طرفي الخط الأخضر تتواصل في الأساس من قبل منظومة القوى ذاتها. هذا التشابه يصل إلى درجة أنه يمكن أيضا رؤية حركات مستوطنين نقلت نشاطها من أحد طرفي الخط الأخضر إلى الطرف الثاني — مثلا قسم من مستوطني الخليل الذين يعملون اليوم بهدف تهويد عكا أو مستوطنون من قطاع غزة انتقلوا للنشاط في النقب.
ثانيا، في عملية الاستيطان في طرفي الخط الأخضر يتم في أحيان متقاربة استخدام نفس الأدوات والطرق، الملائمة للعلاقة المختلفة. سأقدم نموذجا عسكريا واحدا فقط وآخر مدنيا.
· مهمة الجيش في توسيع المستوطنات في المناطق المحتلة واضحة جدا. لكنه يواصل القيام بدور مركزي داخل الخط الأخضر أيضا: تقريبا، لا تقام اليوم، داخل الخط الأخضر مستوطنات عسكرية صغيرة لتتحول إلى مستوطنات مدنية، لكن ثمة مركبا مركزيا في مخططات تهويد النقب وهو نقل قواعد عسكرية عملاقة إلى جنوب البلاد. القواعد العسكرية تكون كبلدات، وفي جوارها تقام أحياء خاصة لعناصر الجيش النظامي المهني. بالإمكان العثور أيضًا على أحياء كهذه في مواقع كثيرة في البلاد، كعكا مثلا. إنها تستخدم في كل مكان أيضا لضمان الطابع اليهودي الحصري لأحياء وبلدات، وكذلك كامتياز مادي، تم اعداده للتواصل بين مجموعات اجتماعية وبين الدولة والمؤسسات الاستيطانية في الحركة الصهيونية.
· بالطبع يتيح الاحتلال العسكري في المناطق المحتلة سطوا عنيفا على الأراضي، اعتمادا على التعاون بين الجيش والمستوطنين، ولكن المنظومات المدنية لتشريع السطو مهمة. الأداة الأكثر أهمية لتشريع نهب الأراضي في المناطق المحتلة منذ 1978–الاستيلاء على "أراضي الدولة" غير المستغلة — وصلت إلى الضفة الغربية من الجليل. وكان تم استخدامها في الستينيات لمصادرة أراض لـ"تهويد الجليل"، وهذا ما اعترفت به القضائية بليئا ألبيك، التي حولته لاستخدام موسع بهدف نهب الأراضي وإقامة المستوطنات في الضفة الغربية. يوجد بالتالي ما يتجاوز نقل طرق القمع من المناطق المحتلة إلى داخل الخط الأخضر، كما كان يمكن أن نرى في أكتوبر2000، هناك أيضا انتقال لطرق استعمارية من داخل إسرائيل إلى المناطق المحتلة.
ثالثًا، إن جهاز القوى السياسية كذلك، الذي يبلور عمليات الاستعمار، مشترك على طرفي الخط الأخضر. لا شك أنه توجد للحركة الصهيونية أطماع امبريالية في الشرق الأوسط، وممنوع حصر نظرتنا في الحلبة المحلية. يكفي أن نتذكر محاولة حكام إسرائيل إسقاط نظام جمال عبد الناصر بعد تأميم قناة السويس، أو محاولة إقامة نظام جديد في لبنان بالتحالف مع الكتائب في الثمانينيات. ولكن هنا بالضبط تبرز أهمية التمييز بين الامبريالية وبين الاستعمار الاستيطاني: تعلمنا مرة تلو الأخرى أن الحركة الصهيونية ترد على الهزائم العسكرية على الصعيد الدولي وعلى فشل أطماع إقامة إمبراطورية في الشرق الأوسط، بتصعيد القمع في فلسطين وتجديد جهود الاستعمار. وهذا التصعيد تمّ مثلا في المناطق المحتلة بعد حرب 1973، حين خرج اليمين القومي-المسيحاني الصهيوني، ردًا على زعزعة التفوق العسكري الإسرائيلي، في حملة استيطان بالضفة الغربية؛ وبعد توقيع الاتفاقيات المنفصلة مع أنور السادات عام 1978 والانسحاب من سيناء، باشرت حكومة بيغن بمشروعها الاستيطاني الأوسع.
لقد تركزت جهود مؤسسات الحركة الصهيونية، وفقًا للظروف السياسية، في الاستيطان بالمناطق الفلسطينية المحتلة وأحيانًا في داخل الخط الأخضر. يمكن مثلا أن نرى في مخطط مصادرة الأراضي في الجليل، الذي قاد إلى يوم الأرض عام 1976، ردًا من حكومة رابين الأولى على التحديات التي وضعتها أمامها حركة "غوش ايمونيم" في الضفة الغربية. هناك قوى في اليسار الصهيوني تقوم منذ سنوات بدفع مخطط الاستيطان في نطاق الخط الأخضر كبديل للاستيطان خارج الخط الأخضر — وكأننا لا نتحدث عن العملية الاستعمارية نفسها...والعلاقة أوضح في حالة "مخطط برافر"الذي يقضي بطرد عشرات آلاف الفلسطينيين البدو في النقب من قراهم. فمخططات الاستيطان في النقب طُرحت كرد صهيوني على الانسحاب من غزة. عُرض "مخطط برافر"في كانون الثاني 2006، بعد أشهر قليلة على استكمال تطبيق خطة شارون بـالانسحاب أحادي الجانب وتفكيك المستوطنات في قطاع غزة. لقد أشار برافر إلى خطة الانفصال حينذاك كسابقة لطرد البدو من قراهم. فالاستعمار الاستيطاني يمنح نفسه تعويضات على وقف الاستيطان والسلب في منطقة ما بواسطة استكماله في مكان آخر.
ان صد قوى الاستيطان في المناطق المحتلة أو إخلاء مستوطنين في المستقبل، أيضًا، ربما تقود مباشرة إلى عملية استيطان وسلب داخل الخط الأخضر، تحت شعار الدفاع عن طابع الدولة اليهودي الحصري، وكمحاولة للانتقام من الفلسطينيين داخل إسرائيل على مقاومة الفلسطينيين الصلبة في المناطق المحتلة. ومن هنا الأهمية الخاصة في بلورة موقف مشترك لنا ضد جهود الاستعمار في طرفي الخط الأخضر. نحن ندعم تفكيك المستوطنات في المناطق المحتلة؛ ولا نوافق على ان يؤدي إخلاء مستوطنات الضفة الغربية إلى جهد استيطاني صهيوني داخل الخط الأخضر، بالضبط مثلما لن نوافق على أي اشتراط للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة بالاعتراف بالطابع اليهودي الحصري لدولة إسرائيل. نحن نرفض عملية السلب والاستيطان في كل مكان — في الخليل وعكا، في نابلس ووادي عارة، في القدس والنقب. ولهذا السبب بالضبط نحن مجتمعون هنا: كي نفكر بمواجهة مشتركة مع الاستعمار الصهيوني انطلاقا من الوعي لاختلاف الشروط التي ننشط فيها وانطلاقًا من رؤية مشتركة.
4. إلى جانب ما سلف، فنحن كنشيطات ونشطاء يسار مناهضين للاستعمار بكل أشكاله، من المهم لدينا خصوصًا ملاحظة ان المنطق الاجتماعي لعملية الاستيطان متشابه في طرفي الخط الأخضر. ففي طرفي الخط الأخضر تجرّ السلطات إلى داخل المستوطنات، ليس مستوطنون صهاينة إيديولوجيين فقط، وإنما مستوطنو جودة الحياة من الطبقة الوسطى المرتفعة، الذين يتم إقامة مستوطنات "جودة الحياة" الغنية، وكذلك مستوطني "انعدام الحيلة" الفقراء، الذين تنكل دولة إسرائيل بهم وتمارس ضدهم سياسة غبن نيوليبرالية لغرض دفعهم داخل عملية الاستيطان. يمكن أن نجد مثل هؤلاء المستوطنين مثلا في "موديعين عيليت"، في أجزاء من "أريئيل"و"معاليه أدوميم". بعد أن استنفذ معسكر المستوطنين قوته الديمغرافية في الثمانينيات، تحقق له توسيع المستوطنات بواسطة دمج طبقات اجتماعية جديدة في مشروع الاستيطان. والنضال لمواجهة الاستعمار الاستيطاني يوجب، بالتالي، التعاطي مع العملية الاجتماعية-لاقتصادية التي تغذيه — من أجل وقفها.
لا جديد في حقيقة أنّ أساس الاستعمار هو استغلال الضّائقات. منتفعو الاستعمار الاستيطاني بحاجة إلى خامات بشريّة. منذ الثّمانينيّات، تدمج حكومات إسرائيل ما بين سياسات اجتماعيّة-اقتصاديّة نيوليبراليّة داخل إسرائيل واستثمار أموال طائلة في الأراضي المُحتلّة. إنّ خلق الضّائقة الاجتماعيّة هو العصا التي تدفع النّاس خارجًا؛ العون المالي المُعطى للمستوطنين في المناطق الفلسطينية هو الجزرة التي تجذبهم نحو المستوطنات. المنطق ذاته يعمل أيضًا داخل الخطّ الأخضر: قال نتنياهو بشكل جليّ إنّ حكومته تستخدم أسعار المنازل المُرتفعة في إسرائيل، تلك الشّرارة التي أدّت إلى موجة الاحتجاجات الاجتماعيّة في صيف عام 2011، كوسيلة "لنقل النّاس" إلى الاستيطان في النّقب. إنّ العمليّة الاستعماريّة هي محرّك من الأرباح للنخبة، وهو بحاجة إلى الوقود: هذه هي الضّائقة الاجتماعيّة. لذا، علينا مقاومة كليهما: جني الأرباح من جهة وإنتاج الضّائقات من جهة أخرى. بحسب رؤيتنا للأمور، هذا هو المعنى العميق للنضال نحو الحقوق الاجتماعيّة داخل الخطّ الأخضر: من لا حقوق اجتماعيّة له يبقى متعلّقًا بعطاءات المُسيطرين، بالرّشاوى الاستعماريّة، ويُدمن علىالمخدر. إنّ النّضال نحو الحقوق الاجتماعيّة — الحقّ في الإسكان، في التّعليم وفي الصّحة — يتيح أمامفقراء المُجتمع اليهودي إمكانيّة تحقيق الرّفاهيّة دون المشاركة في عمليّة السلب، دون التّحوّل إلى مستوطنين، دون أن يكونوا ممتنّون لـ"مؤسّسات الاستيطان" الصّهيونيّة التي تستغلّهم. وبهذا، يُساهم النضال الاجتماعي في إسرائيل في النّضال الفلسطيني ضدّ الاستعمار الاستيطاني.
إنّ الاستعمار الاستيطاني يخلق تحالفًا اجتماعيًّا بين مؤسّسات الحركة الصّهيونيّة، التي تقود عمليّة الاستعمار،بين والنّخب التي تجني الأرباحمن جهة، والمستوطنين من الطّبقات المُضطهدّة والفقيرة الذين يشكّلون موادّ خام للاستعمار من الجهة الأخرى. يدفع هؤلاء مقابل الحقوق الإضافيّة المؤقّتة التي يتمتّعون بها عندما يتحوّلون إلى أدوات السلب ويضحّون بمستقبلهم. وظيفتنا، كأشخاص نعمل داخل المُجتمع المستوطن، هو أن نسعى قدر الإمكان إلى تفكيك هذا التّحالف، وإلى إحداث الشروخ فيه. يحمل ذلك في طيّاته أهمّيّة للمجتمع الفلسطينيّ، ولكنّه يحمل أيضًا أهمّيّة لفقراء المُجتمع اليهودي: بالنّسبة إليهم، هذا النّضال يُحرّرهم من ولائهم لنظام يستغلّهم ويطالب بتحويلهم إلى جزء من جدار الفصل.
لم يُنتج الاستيطان الاستعماري هنا مجتمعًا متجانسًا. تكوّن هنا مجتمع رأسمالي، بمُستغلّيه وفقرائه. يتمّ استخدام هؤلاء كحشوة لمدافع عمليّة السّلب والاستيطان — لكن، يمكن توجيه هذه المدافع أيضًا ضدّ النّخب التي تسخّرهم لهذا الغرض. بل أكثر من ذلك: حلم مؤسّسو الصّهيونيّة بخلق مجتمع أبيض، أوروبي، على أنقاض الشّعب الفلسطيني. رغم نجاحات الصهيونية، التي يدفع شعبانا ثمنها حتّى يومنا هذا، هذان هما أيضًا أكبر فشلين تاريخيّين: بداية، لم يختف الشّعب الفلسطيني، بعكس شعوب أصليّة عديدة اختفت تقريبًا بعد أن هزمها المستوطنون الأوروبيّون. بقي الشّعب حيًّا وموجودًا — داخل الخطّ الأخضر، في الأراضي المُحتلّة، في الشّتات في مخيّمات اللاجئين — وظلّ وحدة سياسيّة وثقافيّة، ومجموعة سياسيّة. ثانيًا، بدلًا من أن تبني الحركة الصّهيونيّة في البلاد مستوطنة أوروبيّة بيضاء، اضطرّت إلى إحضار "مستوطنين من درجة ثانية" إلى هنا — يهود عرب للغاية، أو سود للغاية، أو شرقيّون للغاية. هكذا، بدلا من مستوطنة بيضاء متجانسة، تكوّن هنا مجتمع طبقيّ، عماده الاستغلال والتّمييز والعنصريّة تجاه العرب وتجاه كلّ ما هو عربي، حتّى فيأوساط اليهود الشّرقيّين أنفسهم. هذه التّناقضات الدّاخليّة هي أساسنضالنا اليوم.
تقوم الصّهيونيّة بصيانة الجدران التي بنتها حول الأقليّة اليهوديّة في الشّرق الأوسط بواسطة النّزاعات؛ إذا ما صمتت المدافع والجرّافات، سوف تستطيع غالبيّة اليهود أن تنتظم من جديد ضدّ النّخب التي كانت تُسخّرها. إذا كفّ المستوطنون عن الاستيطان المتواصل، إذا جلسوا بهدوء وأمعنوا النّظر حولهم، بجيرانهم، سوف يجدون لأنفسهم حلفاء وحليفات في المجتمع الفلسطيني وفي الشّعوب العربية المجاورة. سوف يشعر غالبيّتهم كما نشعر نحن، أنّ لا مستقبل لحياة في هذا "الغيتو" المُسلّح في الشّرق الأوسط. هذا ما دفع يتسحاق طبنكين، من قادة الحركة الكيبوتسيّة وأحد أتباع "أرض إسرائيل الكاملة"، إلى التّشديد على أنّ الصّهيونيّة قامت كحركة "لجلب الاستيطان اليهودي إلى البلاد. للاستيطان وليس للجلوس (بارتياح)". بحسب الصّهيونيّين، ممنوع السّماح للأشخاص بالجلوس بارتياح. فليس الاستعمار الاستيطاني نظامًا فحسب وإنّما عمليّة متواصلة. ما زال الاستعمار يهدّد الوجود الفلسطيني ويعرّض الوجود اليهودي للخطر، ما زال يسلب ويستوطن، ما زال يقلع ويُخلي ويهدم ويستعمر. إنّه لا يستطيع أن يضمن لأيّ كان أن يجلس بهدوء، أي بسلام — كشخص متساوٍ بين متساوين. ولا يمكن لأي شيء ضمان مساواة بين متساوين، سوى التّغلب على الاستعمار.