الربيع العربي: حضور فلسطين رافعة وغيابها كارثة

Demonstration for Palestine in Tunis
علم فلسطين أثناء مسيرة تضامنية مع فلسطين بمناسبة يوم الأرض في شوارع تونس

 

بقلم نصار إبراهيم


يرتبط مفهوم الربيع بكل ما هو جميل، كما يرتبط بالتجدد والخير القادم ومواسم الحصاد المقبلة. وبذات المعنى يتم استخدام المفهوم عند الحديث عن ربيع الشعوب، أي أن الشعب الذي يخطو نحو ربيعه السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، معناه أنه يغادر حالة الترهل والانحطاط والتبعية والبؤس نحو التفاعل والنهوض والحرية على كل المستويات.


والشعب الفلسطيني الذي يقاوم منذ عقود من أجل حريته واستقلاله هو أول المنتظرين  لربيع الأمة والشعوب العربية، التي يبدو وكأنها قد استقالت من التاريخ والجغرافية بحكم سياسات ومواقف ملوكها ورؤسائها وشيوخها وسلاطينها، أولئك الحكام الذين جعلوا من أمة بمستوى الأمة العربية، عريقة وعظيمة بشعوبها وتنوعها وإمكاناتها الهائلة بشريا وحضاريا وإقتصاديا، أمة تتسكع في ذيل الأحداث وتقف على هوامش الأمم الأخرى.


 

الفلسطينيون كانوا ولا زالوا يقاومون وينتظرون طير الوعد العربي، عقود من المقاومات والشهداء والمعاناة، لكنهم لم ييأسوا من أمتهم... ولهذا عندما بدأ الحراك في أكثر من بلد عربي ابتهج الفلسطينيون: أخيرا تحركت الشعوب العربية، هدرت الميادين واشتعلت عواصم عربية غابت كثيرا عن ساحة الفعل وصياغة المصائر.

 

فرحة الفلسطينيين تلك لم تكن صدفة أو عاطفية، بل هي تعبير عن فرحة من ينتظر لحظة استعادة التوازن وعودة الحاضنة الأساس لكي تعتدل المجابهة ضد المشروع الصهيوني وفق أنساقها الطبيعية.

 

الآن، وبعد مرور أكثر من عامين على بداية ما يسمى الربيع العربي، هل جاءت الأحداث والحقائق لتبرر فرحة الفلسطينيين، أم أنها كانت مخيبة لآمالهم؟ وإذا كانت كذلك، فما هي الأسباب وما هو جذر الخلل؟

 

في البداية، إن مقاربة أو محاكمة "الربيع العربي" إنطلاقا من فلسطين لا يعني النرجسية أو الإنغلاق الفلسطيني على الذات، وإنما يعني في العمق إعادة وعي طبيعة التحديات والتناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تواجهها الشعوب العربية باعتبارها شرطاً للنهوض ومغادرة دوائر التخلف والفشل والإحباط على المستويات المختلفة، فالقضية الفلسطينية هي قضية العرب بامتياز، والمشروع الصهيوني، منذ اللحظة الأولى، هو مكون عضوي في المشروع الاستعماري الذي تبلور قبيل الحرب العالمية الأولى واتخذ ملامحه الواضحة في إطار الحاضنة الاستعمارية آنذاك، بريطانيا وفرنسا، وهو ما وجد ترجماته عمليا في اتفاقيات سايكس - بيكو عام 1916 ولاحقا وعد بلفور، ومن ثم الإنتداب البريطاني على فلسطين، وصولا إلى فرض المشروع بقوة السلاح عام 1948 وإقامة دولة إسرائيل، التي لا تزال تقوم بدورها ووظيفتها الاستعمارية في قلب العالم العربي بدعم واحتضان الدول الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة.

 

إذن، حالة الانحباس والتخلف التي تعيشها الدول العربية، وإخفاقها على صعيد التنمية الشاملة والدائمة، واستلابها وتبعيتها لدوائر القرار الاستعمارية، وتخلف أنظمتها السياسية وفقدان دولها القطرية لمعنى السيادة الوطنية بمكوناتها المختلفة، وحالة الاستلاب الثقافي التي تعيشها أمام الهيمنة الثقافية الاستعمارية، مرورا بتدمير وتشويه مفهوم المواطنة والكرامة الوطنية، بما في ذلك افتقاد المواطن العربي للحد الأدنى من الحرية والحقوق المدنية، وتحويل وظيفة الدولة من دولة وطنية إلى دولة الأسر الحاكمة، واستباحة ثروات الأمة العربية الطبيعية والبشرية، والإمعان في تمزيق وتشويه الوعي القومي عبر تدمير النسيج الاجتماعي العربي وإغراقه في وحول الطائفية والمذهبية والتخلف الفكري، كل ذلك يجعل من مجابهة المشروع الصهيوني شأنا عربيا بامتياز. بدون وعي هذه المهمة يستحيل الحديث عن نهوض أو ربيع عربي حقيقي، ذلك لأن أحد ركائز التغيير السياسي والاجتماعي الجذري يتمثل في مجابهة سياسات التبعية والتدخلات الخارجية التي تحاول السيطرة على عملية التحول وإبقائها تحت سقف وشروط الهيمنة الاستعمارية بشروطها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.

 

إذن، قضية الشعب الفلسطيني هي قضية عربية داخلية من الدرجة الأولى، وبالتالي لا يمكن عزلها موضوعيا عن التحديات المختلفة التي تواجهها الشعوب العربية في سياق محاولاتها للنهوض والتغيير الشامل.

 

هذا الواقع، يفرض مقاربة ما يجري في العالم العربي من منظور أبعاده المتنوعة من جانب، وأيضا إنعكاساته وتشابكه مع القضية الفلسطينية من جانب آخر، وعليه فإن الحكم على مدى عمق وجدية وجدوى التغيير في المجتمعات العربية يرتبط بتفاعل وتكامل ثلاثة محددات أساسية:

 

الأول: تأمين حقوق المواطنين الأساسية في كل دولة من الدول العربية؛ وهذا يشمل الحريات الفردية والجماعية والحريات السياسية وحرية التعبير واحترام التنوع وحرية المعتقد وفصل السلطات، كما يشمل تكافؤ الفرص وتلبية الحقوق الأساسية للمواطنين على صعد التعليم والعمل والصحة، بما في ذلك حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين في مختلف المجالات واحترام حقوق الطفل والبيئة، أي بكلمة، كل ما تنص عليه معاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان في كافة المجالات، وهنا تلتقي المجتمعات العربية مع غيرها من الأمم والمجتمعات والشعوب من حيث ضرورة تأمين تلك الحقوق والنضال لتطويرها وفق طاقات وإمكانات المجتمع المحدد.

 

غير أن تأمين هذه الحقوق والحاجات الضرورية يعني توفير الشروط اللازمة للنهضة السياسية والاقتصادية والثقافية في داخل المجتمع، وهذا مشروط بتوفر الحرية السياسية والاجتماعية بهدف امتلاك الحرية في تحديد أولويات المجتمع المعني في مختلف المجالات، بمعنى أن تأمين الحقوق الاقتصادية يتطلب القدرة على تحديد إطار ومضمون العملية التنموية التي تستجيب لتطلعات المجتمع، وأيضا القدرة على الاستفادة القصوى من الثروات الطبيعية والبشرية الموجودة، إذن نحن أمام عملية معقدة ومتداخلة، ومن يعتقد أن تحقيق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هو مجرد نقاش نظري ومجموعة إجراءات سطحية أو انتقائية إنما يؤسس لعملية مشوهة، مما يفقد تلك العملية البنيوية أساسها وشروطها الاجتماعية والمادية، وبالتالي يفقدها مرجعيتها الأصيلة، أي الواقع الاجتماعي بمكوناته المتنوعة.

 

إدراك هذه النقطة تحديدا أمر في غاية الأهمية، لأن وعيها بصورة عميقة يقطع الطريق على محاولات فرض الديمقراطية أو الحرية من الخارج، كما يؤشر في كثير من الحالات إلى السبب وراء إخفاق تصدير الديمقراطية والحرية عبر التدخلات الخارجية، وإلى إخفاق عملية فرض نماذج تنموية على العالم الثالث عموما وفي الواقع العربي خصوصا تحت اشتراطات وضغوط البنك الدولي أو التبعية والاعتماد على التمويل الخارجي.

 

إذن، عملية الديمقراطية والحرية هما بالأصل خيار وفعل اجتماعي – سياسي داخلي بامتياز يشتق من ذات المجتمع ويستند إلى تاريخه وثقافته وإمكاناته المادية والبشرية، وهي عملية تحتاج أيضا إلى التنظيم وصياغة برامج التغيير ومشاركة أوسع القطاعات الشعبية لتحقيقها، ولكن ما نلاحظه في حالة ما يسمى بالربيع العربي هو شراسة وثقل التدخلات الخارجية في الحراك الشعبي بحيث أصبحت عملية التغيير وكأنها مجرد عملية بروباغاندا إعلامية، وفرصة لفرض النموذج الغربي للديمقراطية بهدف حماية المصالح الجيوستراتيجية للدول والقوى الخارجية التي تتناقض مع جوهر ومكونات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كما تراها الشعوب العربية لذاتها.

 

هذا هو المحدد الأول لمفهوم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، غير أن هذا الجانب في الواقع العربي القائم لا يمكن فصله أو تحقيقه بعيدا عن تأمين وتحقيق محدد آخر لا يقل أهمية، والذي بدونه يستحيل تحقيق الجانب الأول أو على أقل تقديرسيجري تشويهه.

 

الثاني: تحقيق مبدأ استقلال وسيادة الدولة القومية أو الوطنية؛ الدولة القادرة على حماية ذاتها وقرارها المستقل، وحماية المصالح والثروات القومية والاستراتيجية العليا واستخدامها لصالح عموم شعبها بما في ذلك ضمان حقوق الأجيال القادمة، وحماية وحدة الشعب والأرض.

 

الدور الواضح والمستقل للدولة القومية هو شرط ابتدائي لتأمين الإطار الذي تجري في سياقاته عملية التغيير الديمقراطي، فعملية التنمية الشاملة للمجتمع تحتاج لقوة الدولة ومركزيتها عند التخطيط وتحديد الأولويات وتنظيم استخدام الموارد المادية والبشرية، وضمان سيادة القانون، بمعنى أن التغيير الديمقراطي وتلبية حقوق الناس والعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يستدعي ترسيخ مفهوم المواطنة وتعزيز المجتمع المدني الذي ينتظم على أساس معادلة الحقوق والواجبات وسيادة القانون في الدولة القومية.

 

يشكل المبدأ المشار إليه عامل اختبار حاسم لجدية ومضامين عملية التغيير الديمقراطي في المجتمعات العربية، فالهدف ليس الديمقراطية كعملية إجرائية وشكلية، بل الديمقراطية التي تعيد صياغة العلاقات في المجتمع بناء على خصوصية الواقع بما يضمن تلبية حقوق المواطنين من جانب، ومنع توحش الدولة أو مصادرة دورها لصالح الحاكم أو النظام أو العائلة من جانب آخر، من هنا يكتسب التركيز على مفهوم الدولة الوطنية المستقلة ذات السيادة قيمته، ذلك أن الوعي العربي لا زال مثقلا بكوارث الهيمنة والاستعمار، وبالتالي فإن محورا أساسيا من حقوق ومطالب المواطن العربي يتجلى في بناء الدولة القومية والتصدي لسياسات التبعية والهيمنة والتدخلات الخارجية، التي تؤكد التجربة التاريخية أنها شكلت أحد العوامل الأساسية التي تقف وراء استمرار التخلف وإعادة إنتاجه، كما تقف وراء نهب ثروات الشعوب العربية وتعطيل ديناميات التطور الديمقراطي فيها.

 

هذه المسألة تحديدا هي التي شكلت نقطة افتراق الخصوصية السورية عنبقية تجارب ما يسمى دول "الربيع العربي"، حيث ظهر الفارق الجوهري وبوضوح ما بين دور ومواقف وسياسات الدولة الوطنية السورية والرئيس بشار الأسد وأدوار وسياسات الدول الأخرى وحكامها (تونس، مصر، ليبيا، واليمن)، فتلك الدول وأنظمتها السياسية ورؤساؤها كانت مصنفة كدول تابعة للولايات المتحدة، وبالتالي فهي فاقدة للشرعية الوطنية سواء على مستوى السياسة الداخلية أوعلى مستوى السياسة الخارجية، أما في الحالة السورية فبقدر ما أن هناك حاجة للتغيير على مستوى السياسات الداخلية، فإن غالبية الشعب السوري تناهض المساس بمكانة ودور الدولة الوطنية السورية واستقلالها وسيادتها.

 

هذا الواقع أو التحدي هو الذي وضع ما يسمى "الربيع العربي" في سوريا أمام مأزق جدي وأسئلة مصيرية، يتجه خط سير حسمها في النهاية، رغم الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب السوري من دمائه ومنجزاته، لصالح الخيار الحر والأصيل لغالبية شعب سوريا، مقابل إنسداد الأفق أمام مشاريع ومخططات إسقاط سورية عبر فرض الديمقراطية الاستعمارية عليها، وتحطيم دورها كدولة مركزية في العالم العربي وفي الشرق الأوسط إن لم يكن على المستوى العالمي، ذلك أن الكثير من المعادلات والعلاقات والخيارات الإقليمية والدولية قد تغيرت أو أنها في طور التغير منذ الآن، والسبب الرئيس في ذلك هو صمود الحلقة السورية الحديدي أمام محاولات كسرها وإخضاعها لتلتحق ببقية حلقات "الربيع العربي" الأخرى.

 

الثالث: الموقف من الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الصهيوني؛ فالموقف من هذا الاحتلال يشكل ثابتا في الوعي العربي الجمعي، وعليه فإن جدية أي عملية تغيير في أي دولة عربية والموقف الشعبي منها مشروط بعمق الموقف والممارسة اللذان ستتخذهما القوى التي تقود عملية التغيير في تلك البلدان في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فقضية فلسطين ليست قضية عابرة في الوعي العربي، بل هي قضية العرب القومية الأولى، وهي بمثابة المقدس الذي يعني تجاهله المساس بكرامة المواطن العربي في العمق، وبالتالي فإن أي تردد أو غموض تجاه هذه القضية يعني الحكم فورا على عملية التغيير باعتبارها عملية قاصرة ومشوهة بحكم تخليها عن قضية فلسطين والشعب الفلسطيني التي تعتبر بالنسبة لكل مواطن عربي شأنا شخصيا مباشرا.

 

أهمية توضيح الموقف تجاه هذا الموضوع المحوري لا تعود إلى الأسباب المعنوية المتعلقة بالكرامة والحقوق القومية العربية فقط، أو لمساندة الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية والاستقلال على أهمية ذلك، بل لأن الاحتلال الإسرائيلي شكل على مدار عقود الصراع ولا يزال قوة إعاقة في مواجهة أي عملية تغيير ديمقراطي وتقدمي في العالم العربي، فالصراع المديد والمتواصل مع المشروع الصهيوني كان بمثابة الثقب الأسود الذي يستنزف الثروات والموارد وتبديد فرص التطور ودفع المنطقة باستمرار نحو الحروب بما تحمله من كوارث إنسانية ومادية، بهذا المعنى يمكن القول ان الاحتلال الإسرائيلي يتناقض مع مفهوم التنمية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي بصورة حاسمة، بل ويلعب دورا مباشرا في استمرار التخلف وتشجيع الانقسامات والتحالف بصورة معلنة أو مضمرة مع أكثر الأنظمة العربية رجعية ودكتاتورية.

 

لكل هذا، يعتبر النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي مكونا أصيلا من مكونات النضال من أجل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في العالم العربي عموما وفي فلسطين على وجه الخصوص.

 

استنادا لما تقدم، فإن حصر عملية التغيير في الجانب الأول من هذا المفهوم فقط، أي الديمقراطية بشكلها الإنتخابي الإحتفالي، وتجاهل أو تهميش المحددين الثاني والثالث، أي تحقيق السيادة القومية ومجابهة الاحتلال الإسرائيلي، يعني بالضرورة السقوط في وهم الحرية والديمقراطية، بحيث يبدو المجتمع وكأنه ديمقراطي ويحتفل بصناديق الاقتراع بينما هو في الواقع دولة تابعة ولا يملك من الحرية أو الديمقراطية شيئا.

 

انطلاقا من هذه المقاربة، يمكن وضع اليد على جوهر مأزق أو إشكالية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي تعاني منها دول "الربيع العربي"، حيث قاد هذا المأزق إلى حالة من الفوضى العارمة، حالة من عدم الثقة والشك بالمستقبل ومن جدوى كل هذا الحراك، مأزق فتح باب المجتمعات العربية على مصراعيه لمختلف أشكال وأنماط التدخلات الخارجية، وهو ما أدى في النهاية إلى حمامات من الدم الثمين الذي لا يزال يسيل حتى اليوم.

 

لهذا ألقت الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي وحلفائهما بكل ثقلهم السياسي والإعلامي والاستخباراتي والاقتصادي والعسكري بهدف فرض نموذج الديمقراطية الإستعماري الذي يكرس هيمنة تلك الدول وسيطرتها على الشعوب العربية وثرواتها.

 

هنا يمكن القول أن ما انتهى إليه الحراك الشعبي في هذه الدول (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، البحرين) يشير إلى استمرار التناقض واستمرار المأزق، حيث لا تزال بنى الأنظمة السابقة هي السائدة في الواقع، في حين أن الشعوب العربية لم تنتفض في تلك الدول من أجل مجرد الاحتفال بالانتخابات، إنها انتفضت من أجل حرية وديمقراطية حقيقيتين، حيث العدالة واحترام حقوق الإنسان وتأمين المتطلبات الأساسية للمواطن العربي على مختلف الصعد: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأيضا لكي تتحرر الدول العربية من التبعية والهيمنة الإمبريالية وشروط البنك الدولي، لتصبح فعلا دولا حقيقية مستقلة ذات سيادة وطنية كاملة، دولا قادرة على مجابهة التدخلات الخارجية وحماية الثروات القومية إلى جانبالتصدي لسياسات إسرائيل العدوانية واحتلالها المتواصل للشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية. وبالتالي ما لم يتوفر التناغم بين هذه الأبعاد سيستمر التناقض بالدفع نحو تجذير عملية التغيير في المجتمعات العربية حتى تستقيم المعادلة.

 

إنطلاقا من هذه الرؤية، فإن تحديد موقع ومكانة القضية الفلسطينية في سياق ما يجري في العالم العربي، يستدعي تحديد مستويات المواجهة الإستراتيجية الجارية في المنطقة والعالم، والتي في ضوء نتائجها ستتخذ معادلات الواقع ومحدداتها شكلها في المستقبل القريب، في هذا الإطار يمكن لحظ ثلاثة مستويات استراتيجية متشابكة ومتداخلة للمجابهة الدائرة في المنطقة العربية في هذه المرحلة:

 

 

المستوى الأول: المجابهة بين قوى المقاومة والممانعة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية وكلية وجودها الاجتماعي من جانب، والمشروع الصهيوني بكل أبعاده وأهدافه من جانب آخر.هنا بالتحديد يبذل الحلف الأمريكي – الإسرائيلي– الرجعي العربي جهودا مركزة بهدف تبريد القضية الفلسطينية ومشاغلة القوى الفلسطينية بالوعود أحيانا وبالضغوط السياسية والمالية والحروب العدوانية في كثير من الأحيان، وذلك بانتظار نتائج المواجهة في سورية التي في حال أدت إلى إسقاط الدولة الوطنية السورية، كما يحلم الحلف المعادي، سيجري عندها التحرك لتصفية القضية الفلسطينية بضربة نهائية وفق الشروط الإسرائيلية، بكل ما يترتب على ذلك من تصفية للحقوق الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وفي هذا السياق أيضا تأتي محاولات جذب حركة حماس وإبعادها عن محور المقاومة التقليدي في المنطقة ودفعها للإصطفاف مع المحور القطري التركي الإخواني بكل ما يترتب على ذلك من تبدل في المواقف والمواقع تجاه أولويات القضية الفلسطينية والمجابهات الكبرى في المنطقة، وفي الإطار ذاته تأتي المصالحة التركية الإسرائيلية برعاية أمريكية تحت عنوان توحيد الجهود لمواجهة استحقاقات الصراع الدائر في سورية وفق الأجندة والأولويات الأمريكية.

 

نتائج الصراع على هذا المستوى ستقرر مستقبل ومصير القضية الفلسطينية، فإما أن يتقدم محور المقاومة والممانعة، وبهذا تتخطى القضية الفلسطينية المأزق الذي ترتب على مشروع أوسلو باعتباره مشروع الانحطاط العربي وانكفاء المقاومة، الأمر الذي يعني استعادة المبادرة والحفاظ على الحقوق والثوابت الفلسطينية ودحر المشروع الصهيوني بالمعنى الاستراتيجي تمهيدا لهزيمته، وإما أن ينكفئ محور المقاومة الأمر الذي يعني انتصار المشروع الصهيوني وشطب القضية والحقوق الفلسطينية.

 

 

المستوى الثاني: المجابهة ببعدها العالمي بين المحور الإستعماري الأمريكي – الأوروبي الذي يستهدف الهيمنة على المنطقة مدعوما بقوى الرجعية العربية وتركيا كرأس حربة تنفيذية، يواجهه المحور الروسي الصيني المدعوم من القوى الدولية الصاعدة في العالم، مثل إيران ودول بريكس ومعظم دول أمريكا اللاتينية.

 

تجري مجابهة هذا الاستحقاق عبر محاولات فرض إستراتيجية الحلف الأمريكي – الإسرائيلي - الرجعي العربي والإقليمي التي تقوم على أن الأولوية في المنطقة هي مواجهة التهديد النووي الإيراني، وفي هذا السياق يأتي تظهير الصراع الطائفي والمذهبي، بتمظهره السني– الشيعي، ليتقدم على الصراع مع المشروع الصهيوني، بكل ما يرافق ذلك من تشويه للتناقضات وبناء للتحالفات لمواجهة محور المقاومة والممانعة في المنطقة ومن يدعمه من قوى سياسية وثقافية وإجتماعية إقليميا وعالميا. والمؤشر الواضح على هذه المعادلة هو التقارب والتقاطع بين الولايات المتحدة وقوى الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة في كل من تونس ومصر وليبيا، من خلال التأكيد على الإلتزام بمعاهدة كامب ديفيد ومواجهة أي تهديد قد يضر بالسلام مع دولة الاحتلال إضافة إلى الإلتزام بمواصلة تزويد إسرائيل بالغاز المصري.

 

 

هذا المستوى من المجابهة سيحدد معالم التوازنات الدولية الجديدة، بمعنى توفر الفرصة لاستعادة التوازن وكسر حلقة الهيمنة الأمريكية واستعادة الدور الروسي-الصيني الوازن بكل ما يترتب على ذلك من إعادة صياغة للعلاقات الدولية بما في ذلك دور مؤسسات الأمم المتحدة التي بدت عاجزة ومصادرة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في العقدين الماضيين، أو أن الولايات المتحدة ستنجح من جديد في فرض الهيمنة السياسية والإقتصادية على الأنظمة الجديدة في دول "الربيع العربي" وكسر الحلقة السورية، الأمر الذي سيعني إعادة ترتيب المنطقة وفق مصالحها واستراتيجياتها.

 

 

المستوى الثالث: المجابهة على المستوى السياسي الاجتماعي الثقافي بين مشروع القوى الدينية الرجعية والسلفية بمختلف تشابكاته وحوامله الاجتماعية والمشروع القومي العروبي التقدمي العلماني الديمقراطي بكل تشابكاته وحوامله الاجتماعية. في هذا السياق يتجلى انكشاف سقف وطبيعة التغيير الذي مثلته تجربة الإخوان المسلمين في مصر وتونس بصورة رئيسية: التقارب مع الحلف الرجعي القطري- السعودي، التنسيق والتقارب مع الولايات المتحدة والدول الغربية، الإلتزام بالمعاهدات مع إسرائيل وتمرير سياسة وثقافة التطبيع معها، والأهم تحول الأنظمة الصاعدة إلى قوة لجم للمقاومة الفلسطينية وتطمين إسرائيل، التحالف مع حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا على حساب المصالح العربية، المشاركة في الحرب الإستعمارية والإرهابية الكونية التي تستهدف إسقاط الدولة الوطنية السورية. أما على المستوى الاقتصادي: فإن واقع تجربة الإخوان يشير إلى استمرار ربط الإقتصاد المصري بشروط البنك الدولي، والخضوع لشروط الهبات القطرية. وعلى الصعيد الإجتماعي اتجهت تجربة الإخوان إلى تشديد قبضتهم وهيمنتهم على مفاصل الدولة والمجتمع في عملية تؤشر إلى حالة من الإرتداد الإجتماعي بما يمس أساسيات الحقوق المدنية والإجتماعية والحريات الفردية والجماعية.

 

 

نتائج المجابهة على هذا المستوى ستحدد مضمون عملية التغيير في المنطقة وفي المجتمعات العربية على أكثر من صعيد، فإما أن تتجه عملية التغيير نحو حالة من التراجع مما يقود إلى قيام نظم رجعية جديدة تحكم باسم الدين أو قيام أنظمة تابعة وخاضعة لإرادة الدول الإستعمارية، الأمر الذي سيضع حدا حاسما لعملية التغيير الديمقراطي بمضامينها وتجلياتها القومية التقدمية، وبهذا يكون الحلف الإستعماري الرجعي قد تمكن من احتواء حالة الحراك العربي وإعادة ترميم المشروع الديمقراطي الإستعماري الغربي من جديد، بعد أن بدأ يتفكك مع بداية التحول في تونس ومصر، وإما أن يشكل نموذج التغيير والصمود الوطني في سوريا قوة دافعة جديدة مما يمهد لإطلاق عملية تحول ديمقراطي إجتماعي سياسي أصيلة في المجتمعات العربية، إلى جانب استعادة الإمساك بزمام المبادرة في التغيير من قبل القوى السياسية والإجتماعية القومية والتقدمية في مصر وتونس وغيرهما من الدول العربية بما يعنيه هذا الخيار من إتساع الأفق لخروج الأمة العربية من حالة التبعية والتمزق لكي تأخذ مكانتها اللائقة على المستوى العالمي.

 

في إطار هذه التفاعلات والمواجهات الكبرى يقف الشعب الفلسطيني أمام أسئلة حاسمة وأساسية، لقد تأمل الفلسطينيون أن تشكل حالة الحراك في المجتمعات العربية فرصة لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية على المستوى العربي، بما يعنيه ذلك من إعادة بناء الحاضنة القومية التي افتقدها الشعب الفلسطيني طويلا في السنوات الماضية، ولهذا كان الشعب الفلسطيني في حالة نشوة سياسية ومعنوية وهو يتابع حالة النهوض العربي في مصر وتونس وغيرهما، لكنه شيئا فشيئا بدأ يشعر بحالة من الإحباط وهو يرى حدود ومستوى عملية التغيير تسير نحو تكريس ما هو قائم عربيا، وصولا إلى فقدان الثقة في ضوء ترنح تجربة الإسلام السياسي وتموضعها في سياقات الحلف الأمريكي.

 

غير أن الرهان الفلسطيني القائم على انتظار ما ستأتي به رياح الحراك في العالم العربي، لا يعفي القوى السياسية الفلسطينية من مهمة إعادة تقييم المرحلة السابقة والواقع الناشئ وقراءة التحولات الجارية بهدف إعادة بناء الإستراتيجية الوطنية والانتقال بالقضية الفلسطينية ونضالات الشعب الفلسطيني من موقع الإنتظار السلبي أو حالة الانفعال إلى موقع المبادرة الفاعلة. التصدي لهذا التحدي أو الإستحقاق الهام ليس ترفا وإنما إستجابة موضوعية لحالة الوعي والفعل المتصاعد الذي يعكس فاعلية الشارع الفلسطيني تجاه ما يجري في المحيط العربي، حيث يلاحظ وبوضوح تغير في مواقف الشارع الفلسطيني وخاصة تجاه ما يجري في سورية، حيث انتقل من حالة الإنتظار أو التعاطف مع بدايات الحراك الشعبي فيها نحو التعاطف مع مواقف الدولة الوطنية السورية في سياق مواجهتها للعصابات الإرهابية والحلف الأمريكي الغربي – الإسرائيلي – الخليجي الرجعي الذي يدعمها. حيث بات واضحا وبديهيا في وعي الشعب الفلسطيني الجمعي أن انتصار هذا الحلف سيعني الانقضاض على القضية الفلسطينية تمهيدا لتصفيتها.

 

في ضوء هذا الواقع، باتت القوى السياسية الفلسطينية والقوى الفاعلة في المجتمع الفلسطيني في الوطن والشتات، أمام استحقاقات حاسمة لا تفيد معها سياسة النأي بالنفس، أو الاستمرار في دائرة المواقف الضبابية أو التمترس في المساحات الرمادية، فحالة الإنحباس التي يعيشها الوضع الفلسطيني تعكس الإخفاق الإستراتيجي في إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني، وأهم دروس العقدين الأخيرين تمثل في فشل استرتيجية الحل السياسي التي كانت تستند إلى الرهان على حسن نية الراعي الأمريكي والحوار مع الإحتلال دون الإستناد إلى موازين قوى تبرر هذا الخيار.

 

لقد كشفت تجربة أوسلو الإختلالات الكبرى في الممارسة السياسية الفلسطينية، سياسيا وإجتماعيا وإقتصاديا، ولهذا فإن المهمة المباشرة للقوى السياسية الفلسطينية بكافة مكوناتها وأطيافها تتمثل في إعادة بناء الإستراتيجية الوطنية إنطلاقا من استعادة التوازن بين مهام التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، وهذا يشمل إعادة تموضع الحركة التحررية الفلسطينية في إطار محور المقاومة والممانعة العربي – الإقليمي – الدولي بكل ما يترتب على ذلك من خيارات سياسية ونضالية. في سياق هذه العملية الحيوية تستعيد القضية الفلسطينية مكانتها في الوعي الجمعي العربي كمقدمة لاستعادة مكانتها السياسية والإجتماعية والثقافية عند القوى السياسية العربية الفاعلة في هذه المرحلة. وبهذا تتخطى القضية الفلسطينية مصيدة "تحرير" العرب من فلسطين التي تم تمريرها في مرحلة الهبوط والإنحطاط العربي التي ساعدت عليها المقاربة الخاطئة لشعار "القرار الوطني الفلسطيني المستقل" ذلك الشعار الذي كان الهدف الحقيقي من ورائه التأكيد على الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة السياسات والمشاريع الصهيونية، ولم يكن المقصود به بأي حال من الأحوال عزل القضية الفلسطينية عن حاضنتها ومحيطها العربي.

 

خلاصة القول: إن أي حديث عن ربيع عربي لا تصل نتائجه إلى شعب فلسطين ولا يزهر في فلسطين هو ربيع كاذب ولا معنى له.